مقدمة تاريخية:
بدعة المولد :
يبدو أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الإحتفال بالمولد النبوي الشريف احتفالا ً تعلوه مسحة الأعياد والمهرجانات واعتبر العيد في أيامهم عيداً رسمياً شعبياً إسلامياً كما احتفلوا بغيره من المواسم والأعياد الأخرى إسلامية كانت أم مسيحية. فمن المعروف أن النبي محمد (صلعم) لم يحتفل بعيد ميلاده، وكذلك الخلفاء الراشدون، ولم يفعل الأمويون ولا العباسيون ( عبد الغني الشال).
" ويصعب على الباحث تحديد أصل حفلات الفاطميين هذه في مصر فهي لم تكن توجد في تقاليد بلاطهم في أفريقية أو حتى في بلاط مصر قبل مجيئهم إليها كما لم تقم هذه الأعياد فجأة أثناء حكمهم، ويحتمل أن يكون لظهورها علاقة وطيدة برسوم حفلات بلاط ورجال العصور الوسطى بصفة عامة، وعلى الرغم من وجود حفلات في البلاط أيام الطولونيين والأخشيديين، إلا أنها كانت محدودة لا تقاس بعظمة موالد الفاطميين وروعتها، ولكن من الواضح كذلك أن الحفلات والمهرجانات والأعياد كانت معروفة في بيزانطة وفارس العربية، وكتاب "الحفلات" لقسطنتين سجل للحفلات البيزانطية الدينية، ويبدو أن الصلة كانت مستمرة بين الفاطميين والأمبراطورية البيزانطية والفرس ولم تنقطع طوال حكمهم. وقد انتشرت فكرة الإحتفال بالمولد من مصر الى مكة وإلى ساحل أفريقيا وأسبانيا والى الشرق والهند .
وفكرة المولد تتركز في اتحاد المسلمين في هذه الذكرى الدينية المحببة لنفوسهم" . ( نفس المصدر أعلاه ).
ويمكن القول بأن التسامح الديني الذي أظهره الفاطميون في مشاركتهم للأعياد المسيحية والقبطية (عيد النوروز) في مصر كان من ضمن الأسباب التي دعتهم للإحتفاء بالمولد النبوي الشريف، تقليداً ومنافسةً، لإظهار الدين الإسلامي في مقام يليق به بين الأديان.
ليلة المولد:
إن الإحتفال بمناسبة الميلود في ليبيا أكثر ما يتمثل في خروج الأطفال والصبية بقناديلهم ومشاعلهم رامزين بذلك الى مناسبة الميلود، ويتمثل في لبس الجديد من الثياب وتبادل الزيارات، إظهاراً للفرحة وكذلك الإحتفالات الدينية وهي الحضرة وحلقات الذكر.
من أهم مظاهر الإحتفال بهذه الذكرى لدى الليبيين هي إيقاد الشموع والقناديل والمشاعل وشراء الملابس الجديدة والحنة والألعاب والحلويات، والمولد النبوي يعتبر من الأعياد التي يحتفل بها الكبار والصغار كل منهم على طريقته وتعد الأيام الأولى من شهر ربيع الأول وقبل إطلالة ليلة الميلود موسماً تجارياً رائجاً في أسواق ليبيا ويستعد الجميع للتحضير له قبل قدومه حيث تكثر البضائع الخاصة به في الأسواق وتعرض المحلات الجديد من الملابس والأحذية التقليدية المطرزة الخاصة بالكبار والصغار والسلع وتزين واجهات المتاجروالدكاكين والشواع وتكدس الألوان المختلفة من حلويات المولد التي تعد خصيصاً بهذه المناسبة والخميسات والقناديل والدرابيك والبنادير وتكثر الروائح العطرية والبخور في الأسواق وتعرض الحِنّة واللوبان والرب والعسل أمام الدكاكين وكل ما له علاقة بهذه المناسبة وقبل ليلة الميلود تزدحم الشوارع والأسواق والمقاهى بالناس وتمتلي شوارع المدينة بوسائل الإضاءة ومختلف مظاهر الزينة وتبقي الدكاكين أبوابها مفتوحة الى فترة متأخرة من الليل.
وهذا العيد له مكانة خاصة عند الأطفال فإنهم ينتظروه بفارغ الصبر قبل قدومه، وفي ليلة المولد يستقبلونه بمواكب إحتفالية صغيرة ومتفرقة، مقسمة الى مجموعات حسب الشوارع التى يسكنونها، وتبدأ مراسم الاحتفال منذ غروب شمس ليلة المولد وتستمر ثلاثة أيام وما أن تغرب الشمس حتى يخرج الأطفال من بيوتهم في مختلف أنحاء ليبيا – وخصوصاً في الإقليم الطرابلسي - ويبدأ الصبيان بالاحتفال أولاً قبل الفتيات وذلك بإطلاق أنواع مختلفة من الألعاب النارية بعضها تصدر عنه أصوات فرقعة يسمى ( خط ولوح ) ونظراً لما يسببه هذا النوع من خطرعلى الأطفال نتيجة لسوء استعماله تعمل الحكومة على منع بيعه واستيراده مما يسبب في ارتفاع ثمنه وصعوبة الحصول عليه ومع هذا يصر الصبيان على استعماله والحصول عليه ولا يعجبهم المولد بدون هذا النوع من الألعاب.
بعد ذلك يطوف الأطفال في الشوارع والأحياء حاملين القناديل والمشاعل المشتعلة ويصدح هؤلاء الاطفال في تجوالهم بأناشيدهم وأهازيجهم مرددين بعض الأغانى التي تؤكد أهمية الولادة والأمومة والتى توارثوها جيلاً بعد جيل.
وهذه القناديل من صنع محلي وتتكون من الورق والشمع و قطعة من الخيش المغمور في الكيروسين والقطران وتلف على هيئة عصاً طويلة ثم تغلف بورق مزخرف للزينة من الخارج وعند استعماله يغمس طرفه العلوى في الكيروسين. ويشعل ويمسكه الأطفال في أيديهم من الطرف الأخر، وكذلك يشتري الأولاد الصغار نوع من الطبل يسمى ( بندير) والبنات طبلة صغيرة تسمى ( دربوكة ).
وفي طرابلس يصاحب خروج هؤلاء الأطفال بقناديلهم وشموعهم ومشاعلهم خروج الشبان والصبية الأكبر سناً وقد حمل بعضهم برميلاً به كيروسين أو قطران مشتعل يطوفون به الحي ثم يضعونه في وسط إحدى الساحات حيث يتبارى البعض في القفز عليه وألسنة لهبه تتأجج وتشتعل، وقد جرت العادة على أن يخرج البعض قبيل حلول المولد للطواف كل عشية ببعض دكاكين الحي ينشدون أناشيدهم التي يدعون من خلالها أصحاب تلك الدكاكين وغيرهم من أهل الحي بأن يمدوهم بما تجود به أيديهم من نقود كي يشتروا بها ما يحتاجه برميلهم ليلة المولد من ( قاز ) أو قطران وهناك أحتفال آخر كانت تنفرد به مدينة طرابلس وهي عادة قديمة قد يرجع عهدها الى أيام الحكم العثماني وهذا الأحتفال يتمثل في خلع ( البرنس ) على شيخ ركب الحجيج الذي يخترق منطقة المنشية ماراً بالسراي الحمراء وكان يسمى " طريق الحجّية". ونتيجة لمتغيرات الحياة والتطورات الجديدة التي حدثت في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، والتى أبعدتنا عن كل ما هو أصيل من ممارسات ومظاهر احتفالية متعددة في أعيادنا ومناسباتنا، حيث أنقرضت بعض ألعادات وحلت محلها عادات أخرى لم تكن موجودة، ومن العادات التى أنقرضت خلع البرنس و لعبة برميل الكيروسين ولكن مازال يذكرها الجيل الذي عاصرها على الشفاه فقط، ولم تبق سوى القناديل والمشاعل والشموع التي جارت التطور الذي تشهده البلاد فظهرت الى جانب أشكالها التقليدية في صور فوانيس زجاجية وشموع تضاء بالبطاريات وقناديل صناعية، ولقد لاحظنا هذه السنة أن شجرة عيد ميلاد المسيح قد بدأت تحل محل الخميسة التقليدية، وأصبحت مصابيح الإضاءة الملونة زينة كل بيت، وأصبح الأولاد والبنات الصغار يفضلون شراء الألعاب الألكترونية الحديثة على البندير والدربوكة .
أما بالنسبة للفتيات فلهن طريقتهن الخاصة في الاحتفال بهذه المناسبة، تبدأ عندما يسمعن صراخ الصبيان وهم يطلقون المفرقعات، فيخرجن من بيوتهن ويكونن مجموعات صغيرة، كل مجموعة تجلس عند عتبة بيت من البيوت على هيئة دائرة ولكل منهن طبلة خاصة تسمى دربوكة ويقمن بإشعال شموع وخميسات مختلفة الألوان والأحجام، وهي عبارة عن خمس شموع مضيئة مثبتة فوق يد خشبية تعرف ( بيد فاطمة ) أو ( أم الخمسة ) التى يعزى إليها الاعتقاد السائد بأنها تقي من شر عين الحسود. هذه اليد الخشبية المجسمة ( لأم الخمسة ) بأصابعها المزدانة بالحناء التى تأخذ أشكالاً وأنماطاً معروفة لذى النسوة اللاتي يزين بها أيديهن خلال الاحتفالات ومناسبات الأعراس وهى عبارة عن أشكال هندسية جميلة من المثلثات التى تمثل جناح ( الخطيفة ) المتمثل في خطوطه الرفيعة على أطراف وباطن الكف وتثبت هذه اليد بأعلى الهيكل الخشبي المزدان بأوراق ( الكريشه ) الملونة التى تأخذ أشكال الورد وأزهار القرنفل التي اشتهر بها الإقليم الطرابلسي، حيث تظهر هذه الأزهار الورقية حول الدوائر الخشبية المثبتة بعمود الهيكل.
وتقوم الفتيات بإطلاق بعض الأنواع من الألعاب النارية الخفيفة مثل نجوم الليل ثم يجلسن ويرددن بعض الأغانى مع دق الطبلة ويتبادلن الرقص ويستمر الإحتفال إلى أن تنتهي ألعابهن. أما النساء فيحتفلن بهذه الليلة مع أطفالهن الصغار وذلك بمساعدتهم في إشعال الشموع والقناديل والإشراف عليهم حتى لا تحدث حرائق، لأنه في هذه الليلة الجميع يفضل أن يلعب بالألعاب النارية.
وتكتمل هذه الصورة عندما تنطلق أصوات الفتيات مع أصوات الصبيان التى تنساب عبر أرجاء الحي وكأنها أغاريد العصافير فيما تتخللها الزغاريد المنطلقة من حناجر أمهاتهن المليئة بالسعادة والسرور :
هذا قنديل وقنديل فاطمة جابت خليل
هذا قنديل الرسول فاطمة جابت منصور
هذا قنديل النبى فاطمة جابت علي
هذا قنديل الميلاد فاطمة جابت يا ولاد
هذا قنديلك يا حوة من المغرب يشعل لى توه
هذا قنديلك يامنانى يشعل بالزيت الغريانى
هذا قنديلك يامونة يشعل بزيت الزيتونة
( لاحظ إسم فاطمة المتكرر، الدال على التأثير الفاطمي الشيعي ).
الأصل في شعائر إشعال النار عند الأفارقة الشماليين:
يؤكد المؤرخون ( شارل جوليان- ألفرد بل – عبد الجليل الطاهر) أن شعائر إيقاد النار والمشاعل في الأعياد الدينية والمناسبات الإجتماعية عند الأفارقة الشماليين تعود إلى عصور ماقبل المسيحية وهي بقايا شعائر مجوسية داخلت الطقوس المسيحية ومن بعدها الإسلامية.
وبعضهم يرجع عادة إشعال القناديل الى ما بعد الفتح الإسلامى وبالتحديد بعد ظهور الدولة العباسية ببغداد التى قامت من 132 ه / 656 م بعد انهيار الدولة الأموية في دمشق.
" ونتيجة لا ختلاط الدولة العباسية بالبرامكة الذين كانوا أسرة فارسية دخلت الإسلام زمن الدعوة العباسية السرية وقد اتصل أحد أفراد هذه الأسرة وهو خالد بن برمك بأول خليفة عباسى لخدمته وأصبح وزيراً له .
ظل هولاء البرامكة محتفظين بمكانتهم لدى الدولة العباسية حتى سنة 162 ه / 778 م حيث اختار الخليفة المهدى أحد هؤلاء البرامكة وهو يحيى بن خالد البرمكي ليكون مربياً لإبنه هارون الرشيد .
فكان من نتائج ذلك أن انتقلت العادات مع هؤلاء البرامكة التى تتمثل في إشعال الشموع والقناديل لتمتزج بالتقاليد والعادات العربية الإسلامية ومنذ ذلك العهد أصبحت هذه العادات مباحة وجزءاً لا يتجزأ من شعائر هذه الاحتفالات لما تبعثه تلك المشاعل من أنوار تغمر هذه الليلة المباركة تعبيراً عن القبس الربانى الذى تجلى وعم الكون في ليلة مولد سيد الكائنات". (سالم شلابي).
وبعد نهاية الحفل ترجع الفتيات الصغيرات الى بيوتهن ويقمن بوضع الحناء حيث تسهر النساء في هذه الليلة الى وقت متأخر من الليل وهن متجمعات في حلقات دائرية حول إحدى الجدات يستمعن الى القصص والأساطير الطريفة ويقمن بوضع الحنة على رؤس أصابع بناتهن الصغيرات، وفي الصباح تغسل الحنة ويدهن مكانها بزيت الزيتون حتى يصبح لونها داكن وتتفاخر الصغيرات صباح يوم المولد بإيديهن المصبوغة بالحنة الحمراء الداكنة في أصابعهن ( الصورة رقم 001 ) وكذلك بملابسهن. وتعتبر الحنة من مواد التجميل المفضلة لدى النساء الليبيات، وفي هذه المناسبة لايخلو بيت في ليبيا من الحنة، ونحصل عليها من شجيرات الحنة التي تكثر زراعتها في مدينة طرابلس على هيئة أوراق صغيرة خضراء داكنة اللون وتقطف باليد أو بالمنجل المسنن وتنظف مما يعلق بها من فروع ووسخ ثم تعرض للشمس حتى تجف ثم تدق بالهاوون إذا كانت الكمية بسيطة وترحى بالرحى الحجرية ( تاسيرت ) إذا كانت كمية كبيرة حتى تغدو دقيقاً مثل الغبار وتغربل بالغربال ( تاللومت) وإذا ما خلط دقيق الحنة بالماء ووضعت طبقة منه على اليد أو القدم ولفت بقطعة من القماش طوال الليل حوالي ست ساعات تقريباً ثم تغسل بعدها بالماء فإنه يبرز بعدئذ لون الحنة الأصفر المائل الى الحمرة ويظل لونها واضحاً حوالي أربع عشر يوما.
أما كبار السن من الرجال والشيوخ يجتمعون في المساجد حيث يحيون ليالي المولد بحلقات المدائح والاذكار قبل حلوله بأسبوع الى وقت متأخر من الليل أما صباح يوم المولد فإنهم يستقبلونه باللباس التقليدي الجديد والذهاب الى الصلاة في المسجد، ثم يشاركون في الحضرة التى ستنطلق لتطوف شوارع المدينة يوم المولد .
عروس المولد ( الخميسة) وأصولها التاريخية:
وكما ابتدع الفاطميون احتفالات المولد في مصر، كذلك فإنهم أخرجوا فكرة عروس المولد، التي لاشك أنهم طوروها من عرائس شعائرية سابقة: مصرية قديمة وفارسية ثم قبطية ( عبد الغني الشال).
وكانت تصنع في أحجام مختلفة من الحلوى الملونة، على هيئة إمرأة ذات وجه جميل مزين بالأصباغ حول رأسها هالة وتحمل أحيانا مروحة أو مظلة، يحيط بوجهها خمس وردات وعلى جبينها وشم من خمس نقاط، كذلك يرسم على صدرها هلالاً وأحياناً كفة يد.
ومن المعروف أن كفة اليد (وهي رمز عالمي قديم) كانت ترمز لأعلام الإسلام الخمس عند الفاطمية وهم (النبي محمد صلعم – علي بن أبي طالب – فاطمة الزهراء – الحسن – والحسين). ولقد جرت عادة الفاطميين في مصر الإحتفال بأعياد ميلاد كل على حدة ( تقي الدين المقريزي – ابن محمد الطوير).
خميسة المولد:
كانت خميسة المولد في ليبيا تقليداً فاطمياً لاشك فيه ( سالم شلابي)، ولم ينتشر استعمالها إلا في طربلس القديمة والمنشية. ولكن ماهو مدهش حقاً أن يستبدل الليبيون وجه العروس البشري بكفة اليد! ( الصورة رقم 002 ).
لقد مارس الليبيون في القرن الحادي عشر ميلادي، ما درج عليه أجدادهم منذ زمن قديم، وهو تفادي تمثيل الآلهة في شكل بشري.
لقد لاحظ الباحث الليبي الأمازيغي ( الأستاذ يوسف أحمد الختالي) أنه منذ ألفي عام ( تقريبا) قبل الميلاد – ( ما يواكب بزوغ الأمبراطورية الجرمنتية في صحراء فزان ، ورسوم عربات الجياد)، طرأ تغيير في شكل ومضمون الأيقونات الصخرية الليبية حيث أصبحت تنحو نحو التجريد، ومع ولوج الشمال الأفريقي العصرَ الكلاسيكي (الألف الأولى قبل الميلاد) أصبح الليبيون لا يمثلون آلهتهم في أشكال بشرية، كما فعل الفراعنة والإغريق ومن بعدهم الرومان.
فنحن لا نعرف بالتحديد كيف يبدو آمون ( ومعناه الخفي) في سيوة ولكن نعرف أن الكبش حيوانه المقدس - وغورزل وشارته الثور - وتانيت وشارتها ثمرة الرمان وكفة اليد إلخ.
ويعترف الباحث المذكور أعلاه أنه لا يجد لهذه الظاهرة تعليلاً ولا تأويلا. ونأمل مشاركة جميع المهتمين بهذا المجال لإزالة الغموض حول الديانات الليبية القديمة.
لقد قام الطربلسيون بالرغم من تأثرهم بالثقافة الفاطمية، بإحلال كفة اليد ( الخميسة) محل وجه عروس المولد المصرية، ووضعوا خمسة شموع في مكان الأصابع، وبدلاً من الحلوى قاموا بتزيينها بزهور من الورق الملون.
لقد عادت عروس المولد في شكلها المعروف الآن أقرب إلى تانيت أو تنّيت: إلهة الخصب والحماية- الأفريقية ( الصورة رقم 003 ).
بالطبع لم يستعمل أهل نفوسة خميسة المولد، باعتبارها من معالم البدعة الفاطمية بالرغم أن كفة اليد كانت من الأيقونات المنتشرة في الجبل الطرابلسي وخصوصاً بين الإباضية حيث كانت ترمز إلى قواعد الإسلام والصلوات والمذاهب الخمس" انتهى الآقتباس.
وفي مدينة طرابلس يشتري العريس ( خميسة المولد ) لعروسه في هذه المناسبة حيث تقوم بإشعالها ( الصورة رقم 004 ) وتستمر مشتعلة الى وقت متأخر من الليل، وتضع العروس الحنة في هذة الليلة، وصباح يوم المولد تأكل العصيدة وتلبس زينتها مع الملابس التقليدية وتجلس على كرسي حيث تأتي النساء والأطفال للفرجة عليها. وفي بعض المناطق تقدم هدية للفتيات المخطوبات بهذه المناسبة من قبل أسرة الشاب تتمثل في ملابس وقطعة من الحلي وبعض الروائح والحلويات طوال مدة الخطوبة وتعتقد بعض الأسر أن هذا العرف يعمل على توطيد العلاقات بين عائلات الطرفين وخصوصاً إّذ كانت الفتاة غريبة عن الشاب، وتعمل هذه العادة أيضاً على إسراع عائلة الشاب في إتمام الزواج لتجنب تكاليف هدايا الخطبة المستمرة فيعمل الوالدين مع الشاب على إتمام مراسم حفل الزواج في أقرب وقت ممكن.
اليوم الثاني صباحاً (يوم المولد):
وفي فجر يوم المولد الشريف وهو يوافق يوم ( 12 من ربيع الأول) وعلى إثر صلاة الصبح يذهب الرجال الى جامع القرية، وإذا كان جامع القرية صغير يجتمعون في ساحة الحي ليستمعوا الى قراءة السيرة النبوية للرسول التى يتلوها احد الشيوخ ويشارك رجال الحي في انشاد ما جاء فيها من مدائح واشعار . وفي صباح يوم المولد تنصرف النساء في البيوت الى إعداد الأكلة التقليدية الخاصة بهذه المناسبة وهي " العصيدة ".
والعصيدة عند الليبيين هي الأكلة التي تقدم عادة للمهنئين بكل مولود جديد ومن ثم فهي الأكلة التي تقدم في صباح ذكرى المولد النبوي، ويتم شراء مطلباتها مثل العسل والرب قبل ليلة المولد ويقال أن سبب طبخ هذه الأكلة بالذات في هذا اليوم هو ان السيدة آمنة أم النبي قدمت لها العصيدة في نفاسها ( محمد المرزوقي)، ولذلك بقيت عادة العصيدة معمولا بها في المولد - ولكن العصيدة كانت معروفة قبل ذلك التاريخ عند سكان شمال افريقيا .
وبالنسبة للوجبات المستعملة في هذه المناسية مثل سائر الأيام، ولكن الاختلاف في طبخ أكلة العصيدة في الصباح ووجبة الكسكسى بالقديد عند الغداء ( الآنسة توللي )- وهذه العادة أنقرضت الآن - والإكثار من الحلويات وتوزيع نوع خاص من الحلوى مختلفة الألوان تسمى ( حلوة المولد )، تصنع من السكر المرحي المعجون بالعطر وتوضع في ورق ملفوف على هيئة قمع .
طبق أمازيغي بمناسبة المولد :
العصيدة ( آرواي د دي):
وهي أكلة منتشرة عند كل سكان شمال أفريقيا قديماً وحديثاً، ولقد عرفت عند الرومان ( مجلة ليبياالقديمة) ووجدت في كتبهم، وفي القرن التاسع عشر ذكرها معظم الرحالة الذين مروا من ليبيا. وتعتبر العصيدة من الأكلات الشعبية الليبية، ومن الأطباق الشائعة في جبل نفوسة ( آرواي د دي) . ومن المناسبات التى يكثر فيها إعداد العصيدة هي مناسبات الولادة، والمولد النبوى الشريف. ويستخدم في تحضيرها دقيق الذرة (الفارينة) وفي بعض المناطق تخلط الفارينة مع قليل من دقيق الشعير، وهي سهلة التحضير وليست مثل البازين الذي يحتاج الى سواعد قوية.
وطريقة تحضيرها كالآتي :
يوضع قِدر الطبخ على النار وبه كمية من الماء وقديماً كان نحاسى ويسمى ( تانحاست ) والماء حسب كمية الدقيق وبعد ان يغلى الماء يضاف اليه قليل من الملح ويدفع بالدقيق بعد غربلته بالغربال ( تاللومت ) مع التحريك المستمر بقطعة من الخشب تسمى المغرف ( غنجا أو تغنجايت ) وعادة مايكون مغرف العصيدة أصغر من مغرف البازين وتقلب جيداً حتى تكتسب العجينة قوام متماسك ثم يضاف قليل من الزيت لسبكها، وترفع من النار وتوضع في آنية خاصة إما من الفخّأر تسمى ( التّبسي )، أو من الخشب وتسمى ( دوسكو ) ، وذلك بعد دهنها بالزيت حتى لا تلتصق بها العجينة، ثم تكور باليد ( أتَّام )، وتعمل لها فجوة ( تنوقرت) في الوسط، يصب فيها العسل أو الرب حسب الرغبة، وحول كتلة العصيدة يصب الزيت أو السمن، والمتبع هو استعمال الرب مع الزيت اوالعسل مع السمن.
وفي بعض المناطق يضاف لها دقيق الحلبة ( آرن ن تفيطاس)، وبعد ذلك تصبح جاهزة للأكل بالأيدي حيث تقطع قطعاً صغيرة بواسطة الأصابع وتغمس في العسل أو الرب الذى في الفجوة ثم تؤكل ( الصورة الرقم 005 ).
وطريقة أكلها:
يجتمع على القصعة ( التبسى ) من 3 إلى 4 أفراد ويجلسون على هيئة دائرة ثم يُفترش مفرشاً وتوضع عليه سفرة فيها قصعة العصيدة وحولها مجموعة فوط حسب عدد الأفراد وطريقة الأكل تتم باليد، وعند البدء في الأكل يوضع بقرب الجالسين سفرة صغيرة فيها قليل من الرب والعسل والحلبة للزيادة. ويهدي بعض الناس في يوم المولد قصاع العصيدة الى المصلين في المسجد. ويدعى الأجداد الى منزل الأسرة ليشاركوا العائلة الصغيرة في فرحة المولد وبذلك تتجمع العائلات والأقارب والجبران، متحلقين حول قصاع العصيدة في منزل واحد الرجال في جهة والنساء في جهة أخرى، وكذلك الأطفال. ثم ينفضّ الجميع فيرتدون ألبستهم الجديدة ويتعطرون ثم يتبادلون الزيارات، إظهاراً للفرحة ويخرج الأطفال بحللهم التقليدية الأنيقة يزورون أقاربهم وجيرانهم وأيديهم مصبوغة بالحنة وكل منهم يمسك بلعبته المفضلة ويستمر الأكل الطيب والملبس الجديد لمدة ثلاثة أيام متوالية أحتفالاً بهذه المناسبة.
وقد جرت العادة في ليبيا أن تطبخ العصيدة في مناسبات معينة منها :
1 – المولد النبوي : في يوم المولد يتم اللقاء بين الأسر والأقارب وتارة يكون ملتقاهم كبيراً بحيث تضم كل من الأخوة وأبناء عمومتهم وأولادهم وأحفادهم، يلتقون جميعاً في منزل واحد ، ليأكلوا على سفرة واحدة طبق العصيدة وغالباً ما يكون في بيت أكبر العائلة سناً، ويفضل في هذا اليوم أن تكون العصيدة بالرب ( ونحصل على الرب من نقع التمر في كمية مناسبة من الماء ويضاف له السكر ثم نغلّي الخليط على نارهادئة لمدة طويلة حتى يصبح قوام السائل لزجاً وثقيلاً وهذا السائل يعرف بالرب ويستعمل عادة مع أكلة العصيدة بعد إضافة الزيت والآن يباع جاهزاً في الاسواق.
2 – مناسبة الولادة : وفي هذه المناسبة تطهى العصيدة للأحتفال بالمولود ذكراً كان أو أنثى صبيحة ميلاده وكل من يحضر للتهنئة تقدم له العصيدة، ومن تقاليد أهل نفوسة بخصوص هذه الأكلة، أنهم يتشائمون من خروج عصيدة المولود خارج البيت بعكس بعض المناطق الأخرى مثل غدامس حيث توزع عصيدة المولود على بيوت كل الجيران، وتُطهى كذلك للمرأة النافس مع الحلبة والبيض ( آرواي د تفيطاس) لتخفيف شدة المغص، ويوجد من الناس من لا يفضلها وخاصة بعض الرجال حيث يمتنعون عن أكلها اشمئزازاً منها لأنها طعاماً مخصصاً للنفساء.
الحضرة:
تعم الفرحة أرجاء العالم الإسلامى بمناسبة يوم ميلاد الرسول. وفي ليبيا يخرج الأطفال الصغار في صباح هذا اليوم وهم في أبهى ملابسهم وأزيائهم الوطنية الجميلة ( الصورة رقم 006 ) مكونين جوقة من العازفين على الطبول والدفوف. فمنهم من يحمل ( البندير ) وهو عبارة عن دف صغير تتخلله قطع معدنية ومزين بغلاف من الورق الملون على هيئة ورود، وهذا ( البندير ) يشبه الى حد كبير ذلك الدف المستعمل في نوبات المألوف في الزوايا العيساوية أما البعض الآخر يحمل ( البازة ) أو ( النقرة ) وهى طبلة صغيرة، وتقرع الأولى بواسطة قطعة جلدية والأخرى بواسطة عصاة رفيعة. ومنهم من يحمل ( الزّل ) وهو عبارة عن قطعتين نحاسيتين دائرتي الشكل تشبهان الى حد كبير تلك القطع النحاسية المستعملة في آلة ( البترية ) أو الجاز المصاحبة للأغانى والموسيقى الغربية، حيث يدخلون البيوت التى تقوم رباتها برشهم بماء الزهر بعد أن تعطى لهم هدية رمزية تتمثل في بعض النقود فيما تنطلق الزغاريد لتعبر عن ابتهاجهن بما يُردّد من كلمات صوفية :
عالمين يا رفاعي يفزع .. ويجينا الرفاعى
بن عيسى يا مولى السر مع وليدك ديمه حاضر
أصبحت الحضرة وحلقات الذكر في ضواحى طرابلس في طريقها الى الزوال ولم يبق منها سوى حلقات الذكر وقرع الطبل والدفوف داخل الزوايا ولم تعد تخرج المواكب لتطوف الأحياء والشوارع، ولكن مدينة طرابلس أنفردت دون سائر مدن ليبيا الأخرى بحلقات الذكر و" الحضاري ".
فكان من عادة سكان طرابلس في المولد النبوي أن يأتى أتباع كل زوايا الطرق الصوفية من جميع المحلات فيدخلون المدينة: زاوية سيدى يعقوب والزاوية الكبيرة كانتا داخل المدينة القديمة - وكما تجري عادات انصار الطرق الصوفية يسيرون على الأقدام مسافات طويلة حتى يدخلوا المدينة من كل فج وجهة ( الصورة رقم 007 ): من زاوية الدهمانى وسوق الجمعة والشارع الكبير وشارع ابى هريدة زوايا كلها مشهورة ومعروفة باسماء الاوليا الذين ينتموا اليهم أتباع هذه الزوايا سيدى الشعاب وسيدى محمد بن الامام وسيدى سليمان والسيدة راضية يحضرون بأدواتهم والبستهم المزركشة والملونة واعلامهم وعمائمهم المميزة .. الطبول والمزامير والدفوف تُغرق المدينة من صباح يوم المولد حتى المساء في الأفراح والأذكار الصغار والكبار يرتدون الملابس الجديدة وتخرج النساء الى سطوح البيوت يطلقن الزغاريد .. طوال اليوم تتحول الأسقف الى حياة غاصة، تقام المظلات ويجري نقل الماء والطعام إلى هذه السطوح، وعندما تضيق أسطح البيوت بالنساء والأطفال فإن النوافد والشرفات تفتح وتمتلئ بدورها، وهكذا ومنذ ساعات الصباح الأولى تتجاوب أصداء الزغاريد وتتنافس ربات البيوت في رش مواكب الزوايا بماء الورد والزهر، فيتساقط ماء الورد من أيادي الراشّات على جانبي الشارع في وقت واحد وعلى امتداده فيعبق الشذى حتى يملأ المدينة، ويصير الجو كله معطراً. أما الزوايا وأتباعها من المريدين وما يلاحقهم من الصغار فيتوقفون بين الفينة والفينة وسط الشوارع يرددون المدائح ويتلون الأذكار، وتتواصل جولة كل زاوية حتى تغطي جانباً هاماً من المدينة، ثم يعود الجميع الى مقر الزاوية في المساء، وكل الزوايا تتنافس فيما بينها احتفالاً بهذه المناسبة الخالدة لميلاد النبى الكريم لمدة أسبوعٍ كامل منذ اليوم الأول للمولد حتى اليوم السابع، حيث تبذل كل زاوية أقصى طاقاتها لتبرز دون غيرها. (محمد الإسطى) .
ويمكننا أن نقرءَ وصفاً مختلفاً لبعض مشاهد إحتفالات المولد النبوي الشريف في مناطق أخرى مختلفة من ليبيا مثل وصف احتفالات المولد في طرابلس للآنسة ريشارد توللي ، وإفالد بانزه - وفي بنغازي لصالح بن دردف – وفي غدامس يمكن الرجوع إلى كتاب قاسم يوشع " صور وملامح من غدامس" - وكذلك وصف المولد في فزان للرحالة جون فرانسيس ليون.
أما في جبل نفوسة فكل ما نراه لآن من ألوانٍ للألعاب النارية وغيرها، فهو وافد قريب العهد، فالإباضية حتى منتصف القرن الماضي تعتبر كل ذلك من بدع الشيعة ولا مكان لها في الجبل.
ولكن الاحتفال يتمثل في الزيارات العائلية وتناول ( أرواي د دي) وغيره من الحلويات وشرب الشاي إلخ.
وفي المساجد يقرء الشيوخ والشباب القرآن ويتلون المدائح النبوية والأذكار، ونقدم هنا مثالاً بسيطاً لبعض أبياتٍ بالأمازيغية الميزابية من قصيدة في مدح النبي محمد - صلوات الله وسلامه عليه – للشاعر ( باجو صالح ) وتحتها ترجمتها الحرفية:
يَلّولَدْ سيدنا مُحَمّد تَضْوا الدّونيت أسْ الانوار
ولد سيدنا محمد وأشرقت الدنيا بالأنوار
آرَبّي زَالّ اتْسَلْمَدْ فوَاسِي سَجْدَ نْتَاس الأشجار
اللهم صل وسلم على من سجدت له الأشجار
تُوليدْ تَزِيري نَرْسُول تْشَعْشَعْ آمّاسْ نِيجَنْوَان
طلع بدر الرسول وأشرق في كبد السماء
تْفَكْرانَغْ آسْ إيديلّول يَا الله آنّاوِى إيزَلْوانْ
فذكرنا بيوم ميلاده هيا ننشد أناشيد الأفراح