ولدت جميلة جدا حتى أن أباها أسماها "جميلة" ، نشأت في أسرة مصرية متوسطة الحال وكان التفوق حليفها.
اعتادت وهي بعد في سن صغيرة على إطراء الجميع على جمالها الشديد، مصطحبا بدعوات مدرسيها أن يقسم لهم الله ببنات مثلها في الجمال والتفوق.
امتلأت هذه الطفلة نفسها بثقة بلا حدود إلى أن وصلت للسنة الأولى من المرحلة الإعدادية، حيث أصابها ارتفاع شديد في درجة الحرارة لم يتمكن الأطباء من تشخيص أسبابه ، إلا بعد عدة أيام على أنه حمى روماتيزمية استدعت مكوثها في المنزل بسبب تداعياتها لمدة نصف عام كامل.
وبرغم ثقتها في الرسوب بعد هذا الانقطاع المرضي، حصلت على المركز الأول على مدرستها، ومرت الأزمة دون أن تعلم هي وأسرتها ما تخبئه لها الأيام.
جميلة نشيطة كعادتها تستيقظ مبكرا مقبلة على الحياة تقضي كل طلبات المنزل، ثم تصفف شعرها الأسود الطويل دون أن تدري أنها ستعير يوما من الصغير والكبير بأنها صلعاء.
ينطلق فم الفتاة لتقول لأمها صباح الخير لتصدم بأن الصوت الخارج من فيها ليس لها ، بل كان أجش أقرب للذكور منه للإناث.. تندهش الأم ويهتم الأب وينتظران الأيام لتصلح ما أفسدته فلا يحدث فيلجآن لطبيب ، فيحولها لآخر يشك أنها مصابة بداء في القلب.
ويطلب الطبيب تحاليل تنفي شكوكه وتدور الفتاة في دوامة تنتهي بأن تحزم حقيبتها وتتشبث بيد والدها وهي في الخامسة عشرة من العمر ويلفهم الزحام معا في قلب القاهرة التي لا ترحم.
وفي أثناء هذه الرحلة ، سقط الشعر الجميل للفتاة ، ليصبح الإيشارب غطاء دائما لرأسها في كل الأوقات ، حتى داخل المنزل، وينمو شعر وجهها كالرجال تماما وصوتها أصبح لرجل لا لامرأة.
رحم طفولي
وتبدأ فحوصات جديدة لتفصل هل جميلة هي ذكر أم أنثى؟ ليؤكد الأطباء أنها أنثى كاملة، لكن لماذا لم تحض حتى الآن؟ ..ولم كل هذه المعالم الذكورية؟. يبدأ فحص دقيق للوقوف على السبب، وبعد ذهاب وإياب تأتي الكلمات الموجعة للأب "ابنتك يا أستاذ ليس لديها أي تبويض، وبما أنها لا تحيض فالرحم طفولى، وتعاني من مشاكل هرمونية كبيرة، ربما عندما تتزوج يمكن أن ينفع معها الطب، لكن الآن لا يصلح".
وتخرج الفتاة وتتمنى لو أنها لم تسمع شيئا، ليس من هول الصدمة ، لكن من هول الخيار، فالآن عليها أن تخبر من يتقدم لها للزواج بكل شيء، ولكنها لا تستطيع وإن استطاعت ولم يقبل فماذا تكون جنت ، غير أن تلوكها الألسن، وتمنت من كل قلبها لو أنها لم تعرف شيئا.
لكن سرعان ما فطنت جميلة إلى أن أمرها أسوأ من عدم الإنجاب، فمن ذا الذي يقبل الزواج من صلعاء صوتها أجش شعرها ينمو كالذكور تماما ، ويكتفي بذكريات عن جمالها الذي ولى ، وبضعة صور وقسم من كل الأهل أنها كانت أجمل من رأت أعينهم.
وفى مثل هذه القصص لابد أن تمتد أيدي الناس إليها لتنكأ الجراح وتزيدها عمقا، فها هي تخرجت من الجامعة فلا دق قلبها بالحب ولا دق بابها الخطاب.
العريس المنتظر
وتمر السنون وتتزوج أخواتها الثلاث.. وأخيرا يأتي العريس المنتظر، وهو أحد مدرسيها في المرحلة الثانوية، وبعد تفكير تقرر ألا تخبره بشيء ، حتى ترى رد فعله بعد رؤيتها على حالها الجديد، وتفاجأ بترحيبه بل وفرحته بإتمام الخطبة ويحدد موعدا، ولكن هذا الموعد أبدا لم يأت بعد أن أخبرته بسرها.
وبعد سنوات أخرى يتقدم لها زميل في العمل مصاب بداء في القلب ومرض السكر، وعاشت أياما تتخبط في جنون الحيرة وخشية المواجهة، وما قد يترتب عليها من انكسار أمام مجتمع العمل، خاصة إن لم يحفظ حرمة السر، فقررت استشارة أحد الأقارب وتطلع أحدا ولأول مرة على أمرها. فشجعها خاصة أن فرصة زميلها أيضا في الإنجاب ضعيفة ، بخلاف أنه بحاجة للخدمة والرعاية.
لكن زميلها بعدما علم بمشكلاتها رفض الزواج منها ولم يدر وجهه إليها ثانية ، حتى في مكان العمل.
وعادت جميلة لتنكفئ داخل ذاتها، فإذا كان المريض لم يقبل بها فهل يقبل الصحيح؟.
رياح الأمل
ويقطع صمت الأيام تليفون ذو رنة طويلة تشير بأنه من دولة أخرى يحمل صوت رجل يطلب الحديث إلى الآنسة "جميلة".. يتضح أنه أحد معارف الأب الذي رحل.
رشحها له أحدهم ، ويريد أن يتعرف إليها، وتكررت المحادثات وكانت تشعر في كل مرة أنها تقترب من تحقيق الحلم الذي قتل مبكرا جدا، والأمل الذي مات مؤخرا.
ووقع الحب، وأصر الرجل أن يعقد قرانه عليها وهو لم يرها ملء عينيه بعد، بل رآها بقلبه وسمعها بأذنه، فاخترقت عقله، وأصر أن يكون زوجا بل سندا ساعيا لتحقيق حلمها بأن تصبح أما ، وتستعيد جمالها المفقود.
وحين عاد الرجل ، حطم الصنم الأخير ليأسها من الغد، فلم يهتز لمرآها ولم يتراجع خطوة.
وتم الزواج وبدأت رحلة العلاج والتجميل معا، وتكفل الزوج بكل النفقات الباهظة والتي لم يقو عليها الأهل.
وبعد شهور مرت كالدهر بدأت تحيض كأية امرأة، وكان ذلك في نظرها إنذارا بإعجاز أمكن أن يتحقق ولم تصدق نفسها، بل صدقت بقدرة الله حين رأت شعر رأسها ينمو وشعر وجهها ينحسر تدريجيا.
وتقفز الأيام وهي بعد خاضعة للعلاج إلى أن يخبرها الطبيب بما يدق له قلبها خوفا وفرحا؛ فرحمها الآن كرحم أية امرأة تستطيع الحمل، ولكن ليس بشكل طبيعي كامل.
وتحيرت هل هذه مقدمة لأمنية عزيزة على وشك أن تتحقق أم أن تدفن، وفسر لها بأنه لابد من الحقن المجهري، وأنه قد يفشل وقد ينجح، وإذا نجح قد يكتمل الحمل وقد لا يكتمل، ووافقا على الفور بقلوب وجلة تدعو ربها أملا وطمعا في رحمته، وحدث الحمل وللأسف لم يكتمل، ولكن في المرة التالية حدث الحمل واكتمل وأثمر طفلة جميلة جدا ..لم ينجح اليأس ولا التشاؤم أن يمنع أبويها أن يسمياها أيضا "جميلة" على اسم الأم.
وفى النهايه لا تياسو من رحمة الله .