سيرته:
منزلة إبراهيم عليه السلام:
هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان.
وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه.
وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولاده وأحفاده. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب.
يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول الله عز وجل في محكم آياته: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء: الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أمل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل. أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور. كان إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا.
حال المشركين قبل بعثة إبراهيم:
يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات:
فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
وفئة تعبد الملوك والحكام.
نشأة إبراهيم عليه السلام:
وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة. وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة.
رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة، أسرة من الصفوة الحاكمة.
من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار.
مرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟
مواجهة عبدة الكواكب والنجوم:
قرر إبراهيم عليه السلام مواجهة عبدة النجوم من قومه، فأعلن عندما رأى أحد الكواكب في الليل، أن هذا الكوكب ربه. ويبدو أن قومه اطمأنوا له، وحسبوا أنه يرفض عبادة التماثيل ويهوى عبادة الكواكب. وكانت الملاحة حرة بين الوثنيات الثلاث: عبادة التماثيل والنجوم والملوك. غير أن إبراهيم كان يدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح. لقد أفل الكوكب الذي التحق بديانته بالأمس. وإبراهيم لا يحب الآفلين. فعاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه أن القمر ربه. لم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنه يسخر منهم برفق ولطف وحب. كيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر. يأفل ثم يشرق. لم يفهم قومه هذا في المرة الأولى فكرره مع القمر. لكن القمر كالزهرة كأي كوكب آخر.. يظهر ويختفي. فقال إبراهيم عدما أفل القمر (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) نلاحظ هنا أنه عندما يحدث قومه عن رفضه لألوهية القمر.. فإنه يمزق العقيدة القمرية بهدوء ولطف. كيف يعبد الناس ربا يختفي ويأفل. (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون. غير أن اللفتة لا تصل إليهم. ويعاود إبراهيم محاولته في إقامة الحجة على الفئة الأولى من قومه.. عبدة الكواكب والنجوم. فيعلن أن الشمس ربه، لأنها أكبر من القمر. وما أن غابت الشمس، حتى أعلن براءته من عبادة النجوم والكواكب. فكلها مغلوقات تأفل. وأنهى جولته الأولى بتوجيهه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا.. ليس مشركا مثلهم.
استطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق. وبدأ صراع قومه معه. لم يسكت عنه عبدة النجوم والكواكب. بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده. ورد إبراهيم عليهم قال:
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) (الأنعام)
لا نعرف رهبة الهجوم عليه. ولا حدة الصراع ضده، ولا أسلوب قومه الذي اتبعه معه لتخويفه. تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو. كان جدالهم باطلا فأسقطه القرآن من القصة، وذكر رد إبراهيم المنطقي العاقل. كيف يخوفونه ولا يخافون هم؟ أي الفريقين أحق بالأمن؟
بعد أن بين إبراهيم عليه السلام حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب، استعد لتبيين حجته لعبدة الأصنام. آتاه الله الحجة في المرة الأولى كما سيؤتيه الحجة في كل مرة.
سبحانه.. كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والأرض. لم يكن معه غير إسلامه حين بدأ صراعه مع عبدة الأصنام. هذه المرة يأخذ الصراع شكلا أعظم حدة. أبوه في الموضوع.. هذه مهنة الأب وسر مكانته وموضع تصديق القوم.. وهي العبادة التي تتبعها الأغلبية.
مواجهة عبدة الأصنام:
خرج إبراهيم على قومه بدعوته. قال بحسم غاضب وغيرة على الحق:
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (الأنبياء)
انتهى الأمر وبدأ الصراع بين إبراهيم وقومه.. كان أشدهم ذهولا وغضبا هو أباه أو عمه الذي رباه كأب.. واشتبك الأب والابن في الصراع. فصلت بينهما المبادئ فاختلفا.. الابن يقف مع الله، والأب يقف مع الباطل.
قال الأب لابنه: مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم.. لقد خذلتني وأسأت إلي.
قال إبراهيم:
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) (مريم)
انتفض الأب واقفا وهو يرتعش من الغضب. قال لإبراهيم وهو ثائر إذا لم تتوقف عن دعوتك هذه فسوف أرجمك، سأقتلك ضربا بالحجارة. هذا جزاء من يقف ضد الآلهة.. اخرج من بيتي.. لا أريد أن أراك.. اخرج.
انتهى الأمر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته. كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا بالحجارة. رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم. خاطب أباه بأدب الأنبياء. قال لأبيه ردا على الإهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل:
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) (مريم)
وخرج إبراهيم من بيت أبيه. هجر قومه وما يعبدون من دون الله. وقرر في نفسه أمرا. كان يعرف أن هناك احتفالا عظيما يقام على الضفة الأخرى من النهر، وينصرف الناس جميعا إليه. وانتظر حتى جاء الاحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس.
وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد. كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية. وكان المعبد نفسه مهجورا. انتقل كل الناس إلى الاحتفال. دخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة. نظر إلى تماثيل الآلهة المنحوتة من الصخر والخشب. نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس أمامها كنذور وهدايا. اقترب إبراهيم من التماثيل وسألهم: (أَلَا تَأْكُلُونَ) كان يسخر منهم ويعرف أنهم لا يأكلون. وعاد يسأل التماثيل: (مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ) ثم هوى بفأسه على الآلهة.
وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة.. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم.
إلا أن قوم إبراهيم الذين عطّلت الخرافة عقولهم عن التفكير، وغلّ التقليد أفكارهم عن التأمل والتدبر. لم يسألوا أنفسهم: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! وبدلا من ذلك (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها!
فأحضروا إبراهيم عليه السلام، وتجمّع الناس، وسألوه (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)؟ فأجابهم إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذي حطمها!
ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر التفكر:
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) (الأنبياء)
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (الأنبياء)
وحقا كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟
ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) (الأنبياء)
وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف.
عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) (الأنبياء)
نجاة إبراهيم عليه السلام من النار: